فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي: يتجاوز عنهم بترك الهجرة.
قال الرازيّ: هاهنا سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفًا به لم يكن عليه في تركه عقوبة- فِلَم قال: عسى الله أن يعفو عنهم؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضًا (عسى) كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم، والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرًا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعيف الذي يحصل عنده الرخصة، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة، شاق ومشتبه، فربما ظن الإِنسَاْن بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن، فإنها شاقة في النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإِنسَاْن كونه عاجزًا، مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام، والجواب عن الثاني: بأن الفائدة في (عسى) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره؟ هذا ما ذكره صاحب الكشاف.
والأولى في الجواب ما قدمناه، وهو أن الإِنسَاْن لشدة نفرته عن مفارقة الوطن، ربما ظن نفسه عاجزًا عنها، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة (عسى) لا بالكلمة الدالة على القطع. انتهى.
وقال أبو السعود: جيء بكلمة (الإطماع) ولفظ (العفو) إيذانًا بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها، ممن تحقق عدم وجوبها عليه، ذنبًا يجب طلب العفو عنه، رجاء وطمعًا، لا جزمًا وقطعًا.
وقال المهايميّ: فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها، وإن الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه، وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم، ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال: {وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورًا} وفي إقحام (كان) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق، أو أن هذه عادته تعالى، أجراها في حق خلقه، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقًا مما يدل على أنه تعالى قد يعفوا عن الذنب قبل التوبة.
تنبيه:
قال السيوطيّ في «الإكيل»: استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر، إلا على من لم يطقها، وعن مالك: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تُغَيَّرُ فيه السنن، فينبغي أن يخرج منه. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَلم يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: من الآية 72]، قيل: ونسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ، وقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح»، معناه من مكة.
قال جار الله: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله، حقت عليه الهجرة، ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار، ولا يمكنه الأمر بالمعروف، فالهجرة واجبة، وهذا بناء على أن الدور ثلاث: دار إسلام، ودار فسق، ودار حرب، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم وابن أبي النجم في كتاب «الهجرة والدور» عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ.
وذهب الأخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق، واعلم أن من حُمِل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة، وقد قال الراضيّ بالله: إن من سكن دار الحرب مستحلًا، كَفَرَ، لأن ذلك رد لصريح القرآن، واحتج بهذه.
وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله: التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم.
وفي (مذهب الراضي بالله) يكفر إذا جاورهم سنة.
قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى، حاكيًا عن الراضي بالله: إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل؛ لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه، الحكم بالتكفير محتمل هنا، ثم قال: وإنما استثنى تعالى الولدان، وإن كانوا غير داخلين في التكليف، بيانًا لعدم حيلتهم، والهجرة إنما تجب على من له حيلة. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: الهجرة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
الأولى: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشية وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة، إذ ذاك، تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر، لمن قدر عليه، باقيًا. انتهى.
وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما، فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر.
فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، أخرجها مجد الدين بن تيمية في «منتقى الأخبار» في ترجمة (باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها) ثم قال: عن سَمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»، رواه أبو داود.
وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: «لا تراءى ناراهما»، رواه أبو داود والترمذيّ.
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، رواه أحمد وأبو داود.
وعن عبد الله بن السَّعدِي أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو»، رواه أحمد والنسائي، عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، رواه الجماعة إلا ابن ماجة.
وعن عائشة، وسئلت عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخالفة أن يفتن، فأما اليوم مفقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، رواه البخاريّ.
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال: هذا مجالد، جاء يبايعك على الهجرة فقال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، متفق عليه، ولما تضمنت ترجمة المجد، رحمه الله، شقين، أورد لكلٍ أحاديث، فمن قوله: «لا هجرة بعد الفتح...» إلخ، جميعه للشق الثاني، وهو قوله: وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث، وهو ظاهر. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}
وعلينا أن نعرف أن هناك فرقًا بين «مستضعف دعوى ومستضعف حقيقي»، فهناك مستضعف قد قبل استضعاف غيره له وجعل من نفسه ضعيفًا. هذا هو «مستضعف دعوى».
أما «المستضعف الحقيقي» فهو مِن هؤلاء الذين يحددهم الحق:
{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}. هؤلاء هم المستضعفون فعلًا حسب طبيعة عجزهم من الرجال والنساء والولدان.
هل الولد من الولدان يكون مستضعفًا؟ نعم؛ لأن الاستضعاف إما أن يكون طارئًا وإما أن يكون ذاتيًا؛ فبعض من الرجال يكون مملوكًا لغيره ولا يقدر على التصرف أو الذهاب، وكذلك النساء؛ فالمرأة لا تستطيع أن تمشي وحدها وتحمي نفسها، بل لابد أن يوجد معها من يحميها من زوج أن محرم لها، وكذلك الولدان؛ لأنهم بطيعتهم غير مكلفين وهم بذلك يخرجون عن نطاق التعنيف من الملائكة لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
وهذه دقة في الأداء القرآني، فالإنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالاحتيال، والاحتيال هو إعمال الفكر إعمالًا يعطي للإنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل. فقد تكون القوة ضعيفة. ولكن بالاحتيال قد يوسع الإنسان من فرص القوة. ومثال ذلك: الإنسان حين يريد أن يحمل صخرة، قد لا يستطيع ذلك بيديه، لكنه يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع تحت العتلة عجلة، ليدحرج الصخرة، هذه هي حيلة من الحيل، وكذلك السَّقالات التي نبني عليها، إنها حيلة.
والذي قام ببناء الهرم، كيف وضع الحجر الأخير على القمة؟ لقد فعل ذلك بالحيلة، والذي جلس لينحت مسلة من الجرانيت طولها يزيد على العشرة الأمتار، ثم نقلها وأقامها إنّه فعل ذلك بالحيلة. فالحيلة هو فكر يعطي الإنسان قدرة فوق قدرته على المقدور عليه، كذلك معرفة السبيل إلى الهجرة. وكانت معرفة الطرق إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في زمن رسول الله تحتاج إلى خبرة حتى يتجنب الواحد منهم المفازات والمتاهات، وحينما قال الرسول بالهجرة أحضر دليلًا للطريق، وكان دليله كافرًا، فلا يتأتى السير في مثل هذه الأرض بلا دليل.
ولننظر إلى قول الحق سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
{فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى من جاء ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98].
ومع ذلك فإن الله حين أشار إلى هؤلاء المستضعفين بحق قال: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99].
وكان مقتضي الكلام أن يقول الحق: «فأولئك عفا الله عنهم»، لكن الحق جاء بـ {عسى} ليحثهم على رجاء أن يعفو الله عنهم، والرجاء من الممكن أن يحدث أَوْ لا يحدث. ونعرف أن {عسى} للرجاء، وأنها تستخدم حين يأتي بعدها أمر محجوب نحب أن يقع.
فقد ترجو شيئًا من غيرك وتقول: عساك أن تفعل كذا. وقد يقول الإنسان: عساي أن أفعل كذا، وهنا يكون القائل هو الذي يملك الفعل وهذا أقوى قليلًا، ولكن الإنسان قد تخونه قوته؛ لذلك فعليه أن يقول: عسى الله أن يفعل كذا، وفي هذا الاعتماد على مطلق القوة. وإذا كان الله هو الذي يقول: {عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، فهذا إطماع من كريم قادر.
وبعد أن يذكر لنا القصة التي تحدث لكل من مات وتوفته الملائكة ظالمًا نفسه بأن ظل في أرض ومكث فيها، وكان من الممكن أن يهاجر إلى أرض إيمانية إسلامية سواها؛ ومع ذلك فالذي يضع في نفسه شيئًا يريد أن يحقق به قضية إيمانية فهو معان عليها لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}. اهـ.